تاريخ النشر: 01/01/2014
الناشر: دار الفارابي
نبذة نيل وفرات:"لم تلحظ أم مرزوق ولا ابنها مرزوق عودة أبي جاسم المفاجئة من المدرسة ووقوفه خلفهما وإلا ما كانت نطقت بالكفر الذي نطقت به، لقد وقعت الفأس بالرأس وسمع أبو جاسم ما دار بينهما من حديث.
قضي الأمر وبدأت حفلة أبي جاسم ببرنامج كامل: وأين أنت ياست أم مرزوق؟ لماذا لا ...تقومين بتأديب هذه المراهقة المتمردة؟ والله عال أنت تغسلين الأطباق وابنتك البغلة تنام في منتصف النهار وفوق كل هذا تقرأ الروايات الفاحشة وأنت آخر من يعلم!... وقعت الملعقة من يد أم مرزوق اليسرى، ويبست في قبضة اليمنى قطعة الإسفنج المغلفة بالرغوة البيضاء، تماماً مثل لون مرزوق المخطوف خوفاً ولون أبيه المخطوف حنقاً، ليتها خرست قبل أن تقول ما قالت، ما عاد ينفع الندم، قفز أبو جاسم إلى الغرفة قبل أن تستفيق أم مرزوق وابنها من دهشة ما جرى، توجه بسرعة البرق إلى حيث تنام سكينة بأمان، نزع عنها الغطاء وإنهال ضرباً بيديه وركلاً بقدميه ساحباً شعرها الطويل بوحشية إلى الأعلى ناعتاً إياها بفهرس من الألقاب المبوبة: الفاجرة... المتمردة... المسترجلة... الحيوانة... البغلة... متعهداً تزويجها لأول كلب يطرق بابه ليريحه من همها... استيقظت مسكينة مذعورة... ما الذي يجري؟ أهي الحرب مجدداً؟...
من هو ذلك الوحش الكثيف الشاربين الفاغر العينين الذي يهاجمها دون رحمة؟ أهي في حلم أم في علم؟ كانت محاولاتها يائسة لحماية وجهها براحتيها، انكمشت على نفسها كالحلزونة غير قادرة على حماية أية منطقة من جسدها من الزلزال وهزاته الإرتدادية، كانت تصرخ بحالة هستيرية والألم يتدافع عبر جسدها ليخرج من شقوقه قانياً: ماذا فعلت يا أبي؟ ماذا فعلت يا أبي؟ أمي أنقذيني يا أمي! ساعدني مرزوق بحق السماء! ماذا فعلت يا أبي حتى استحق هذا العذاب! أقسم أنني لم أفعل شيئاً كانت أم مرزوق وابنها يقفان دون حراك عند الباب الذي يفصل الغرفة عن المطبخ بشكل صوري، لم يجرؤ أحدهما على التقدم خطوة واحدة إلى الأمام لإنقاذ سكينة التي كان ألمها أكبر بكثير من ألمهما.
فقد كانت كل ضربة تنزل بجسدها تذبح فؤاديها حتى لتكاد سكين صراخها تلامس نقي العظام في جسديهما، لم يلتفت أحد إلى حسنا التي كانت قبل بدء الغزو على البساط تلتهم طبق السلف بشهية ورغيف الخبز على ركبتها، لقد كانت أصابعها الصغيرة في وسط الطبق تحكم الإمساك بقطعة خبز كبيرة لتلف فيها أكبر كمية ممكنة من السلق عندما دخل والدها الغرفة كالوحش الكاسر، تركت حسنا قطعة الخبز في وسط الطبق وانتفضت واقفة لتسند ظهرها وكفيها الملوثتين بالزيت إلى الجدار خلفها وتنخرط في بكاء مكتوم، لم تستطع يوماً أن تعتاد هذا المشهد الدامي الذي كانت شاهدة عيان عليه ربما عشرات المرات خلال سنوات عمرها الخمس.
لم يكن ينقص المعركة ليكتمل نصابها سوى حضور جاسم الذي دخل الغرفة من الباب الرئيسي وكأن الشيطان قد همس بأذنه وإستدعاه على عجل ليأخذ دوره في المعركة الحامية الوطيس... ركض جاسم بإتجاه أبيه وهو يصرخ: ماذا فعلت هذه الفاجرة يا أبي؟ كنت أعلم أنها ستفضخنا يوماً، قلت لك أخرجها من المدرسة وزوجها فلم تسمع كلامي... كنت أعلم أن هذا سيحدث يوماً.
شمر جاسم عن ساعديه ونزل ساحة المعركة بعدته وعتاده دون أن يسمع جواباً، إنهال بالضرب على سكينة مهدداً أنه لن يسمح لها بالخروج خطوة واحدة من هذا البيت بعد الآن برفقة زوجها...
مشهد يتكرر في سياق حكاية سكينة بنت الناطور... سكينة بنت الناطور تلك التي تمثل حال الأنثى التي يقتحهما العنف الذكوري بسطوته في محاولة لتحديد سطور حياتها إلا أنها بعزمها وإصدارها على الوصول إلى هدفها في التخلص من تلك البراثن الوحشية استطاعت أن تلمع وفي سماء باريس كأديبة بعد أن تزوجت بوليد الرجل الذي استطاع بحفوّه ومحبته أن يغدق عليها ما كانت تصبو إليه من وما كانت تفتقده من حنان الأبوة ودفء الحياة الأسرية... وعلى الرغم من هذا الشعور الذي كان يكتنفها تجاه وليد... إلا إنها أحبته أيضاً كزوج عقيم وظلت على إخلاصها ومحبتها له حتى بعد وفاته.
تمضي الروائية في سردياتها لتحكي حكاية سكينة في تقلبات حياتها، دافعة بشخصيات استكملت من خلالهم قصة حياة هذه الفتاة بعين الناقد الإجتماعي كما والأديب البارع في دقة التصوير والأكثر براعة في الدخول إلى عمق عمق النفس الإنسانية وإستشفان دواخلها لإعطاء صورة عن مجتمع ظالم تعيش فيه ليس سكينة بل سكينات. إقرأ المزيد