تاريخ النشر: 01/01/2010
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر
نبذة نيل وفرات:يتصل نسب ابن عنين الأنصاري، هاجر آباؤه الأولون من المدينة إلى الكوفة، وهو شرف الدين أبو المحاسن محمد بن نصر بن الحسين بن علي بن محمد بن غالب المعروف بابن عنين. نشأ بدمشق وكان منزله قبلي الجامع الأموي. فلما يفع أو كاد التلمذ لشيخ نحوي جليل كان يتصدر بالجامع ...لإقراء النحو، هو أبو الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان الشيزري، قرأ عليه الأدب وبرع في النحو، وكان الحافظ الكبير أبو القاسم علي بن الحسن ابن عساكر يدرس بالمقصورة الغربية في الجامع، فسمع منه ابن عنين. واشتغل بطرف من الفقه على قطب الدين النيسابوري رئيس الشافعية بالزاوية الغربية من الجامع أيضاً، وعلى كمال الدين الشهرزوري قاضي قضاة دمشق. ورجل إلى بغداد وسمع من منوجهر بن تركان شاه راوي مقامات الحريري.
وابتدأ يقول الشعر سنة خمس وستين وخمسماية وهو ابن ست عشرة سنة. وابن عينين شاعر أديب عالم. كان عالماً بالأدب واسع الرواية للشعر وأخبار العرب، متمكناً من اللغة متقناً لها، يستحضر كتاب الجمهرة لابن درين، عالماً طويل الباع بالنحو، مشاركاً في الحديث والفقه، ملماً بفروع الثقافة الإسلامية لعهده من تفسير ومنطق وفلك وحساب وهندسة، يظهر أثر كل ذلك في شعره، ولا سيما النحو، فقد كان ينتزع مصطلحاته ويحسن في استعمالها بشعره غاية الإحسان.
وكان يحتكم إليه ألأدباء فيما يشجر بينهم من خلاف. وكان يرجع إليه أيضاً في العويص من مسائل الفقه المتعلقة بالعربية من نحوه وغيره، ليحقق القول فيها مع الثقات، كبعض مسائل الجامع الكبير لمحمد بن الحسن. ولقه من المؤلفات مختصر الجمهرة لابن دريد، والتاريخ العزيزي الذي يظهر أنه ألفه للملك العزيزي سيف الإسلام طغتين بن أيوب صاحب اليمن، والكتابان مفقودان لا يعرف مكانهما.
وقد أن يولد ابن عنين بسنة واحدة مات شاعران انتهت إليهما الرياسة في الشعر ببلاد الشام، هما ابن القيسراني وابن منير الطرابلسي، ولم يقم بعدهما من هو في طبقتهما حتى نبغ ابن عنين، فأشبه الأول بجزالته ومتانته، وضارع الثاني بالهجاء ونهش الأعراض، وفاقهما بخفة الروح والدعابة والتهكم والسخرية.
حاكى في كثير من شعره جزالة المقتدمين، ولكن الطابع الشخصي واللون المحلي ظاهران في شعره أشد ظهور، وقل في الشعراء من تراءت على شعر ابن عنين، فأكثر قصائده تنادي على نفسها أن قائلها شاعر دمشقي عاش في العصر الأيوبي، وكم من شاعر مذكور لا تتبين في شعره زمانه ولا مكانه.
وشعره كثير الفنون متعدد النواحي حم الأغراض، وعناصر منتزعة من مصادر شتى، يتجارى فيه طبع الشاعر وفن الصانع، وتتبين فيه مقدرة اللغوي وتهذيب العالم المثقف، فهناك محسنات البيان والبديع، وهناك استعمال مصطلحات العلوم من نحو وصرف وفقه وحديث ومنطق وطب وفلك وهندسة وحساب، وهو أبرع ما يكون إذا استعمل مصطلحات النحو.
وهذه الصنعة في شعره جارية على ذوق العصر الذي عاش فيه، على أنه مقتصد بها إذا قيس بغيره من شعراء عصره. أما لغته فجزلة منقحة إذا جد، وحفظه للمفردات وحسن انتقائه لها عجبي. وهكذا إذا ترك وشأنه استفاد من بصره في اللغة ومعرفته الواسعة بها فائدة بليغة. ولكنه قد ينزل على اقتراح بعض ممدوحيه فيضم الشعر في سبيل اللغة، كما فعل في القصيدة السينية التي اقترحها على الفخر الرازي، ومثلها القصيدة الحاثية.
وأجل ما في شعره وأطرفه الحنين إلى دمشق، والدعابة والتهكم والسخرية. أما الدعابة والتهكم والسخرية فقل من يضارعه من الشعراء في هذا الباب، ترى فيه خفه روحه وتوقد ذكائه، وشدة ملاحظته وقوة نقده، وحسن تصرفه في إيراد الهزل بمعرض الجد، والجد بمعرض الهزل، والتفنن في تصوبر غرضه تصيراً هزلياً يبلغ به ما لا يبلغ بالجد، وفي هذا الباب إبداع تعجب به النفس مسرورة وتقبل عليه ضاحكة وسلاحه أمضى من سلاح الهجاء.
وهو في هجائه شرس عنيف وقح بذيء يتفنن في مهاجمة خصمه، فيسخر منه ويتهكم به ويرميه بالفواحش، ويرسم له صوراً مضحكة فاحشة، ويختلق له من الحوادث ما يثلم عرضه وشرفه، وهو في هذا الباب غزير المادة واسع الخيال كثير الابتكار، يشبه ابن الرومي في إقذاعه وإبداعه فضلاً عما امتاز به من خفة الروح والتندر.
وشعره في الهداء أكثر من شعره في كل باب، ولولا أن أمانة العلم وصدق الرواية تقضي بنشر هذا الديوان كما هو، لكان حذف الفاحش من الهجاء أولى، على أن ما ضاع منه ولم يجمع أضعاف ما بقي كما يقول ابن خلكان.
وباب المديح في ديوانه غير قليل إذا قيس ببقية الأبواب، وأحسنه القصيدة التي قالها في الملك العادل يستأذنه بها في العودة إلى دمشق، وهي من القصائد المختارة في الشعر العربي، سما بها حتى بلغ الذروة، وتصرف في كل مقطع من مقاطعها تصرف الشاعر المطبوع الحاذق البصير.
أما الرثاء فليس له فيه إلا ثلاث قصائد، أحسنها مرثيته في الملك المعظم، فلقد كان صادق الحزن واللوعة عليه. وباب الوقائع والمحاضرات، باب طريف ممتع، فيه أخبار وحوادث وقصص ووقائع، سجلت تسجيلاً شعرياً، يميط اللثام عن كثير من أخبار الشاعر وأخبار معاصريه، وحسن تأتيه وسرعة بديهته.
ذ
وفي الديوان باب لا يستسيغه الذوق العصري، وهو باب الألغاز، لخلو هذا الموضوع من أعظم عناصر الشعر وهو العاطفة، ولما يقتضيه اللغز من التعمل والتكلف، على ما فيه من البراعة والدقة، وابن عنين ممن اشتهر بنظم الألغاز والإجابة عليها.
وكما أسلفنا القول بدأ ابن عنين يقول الشعر وهو ابن ست عشرة سنة، وظل يقوله طول أيام حياته حتى أسكته الموت وهو ابن احدى وثمانين سنة، ولكنه لم يعن بجمع شعره وتدوينه، وإذا استنشده أديب أو مؤرخ شيئاً من شعره ضن عليه. قال ابن الدبيثي وقد لقيه ببغداد: "...لقيته بها، وكتبت عنه شيئاً من شعره بالجهد لأنه كان ضنيناً به". هذا الديوان إذن لا يجمع إلا بعض شعر ابن عنين، والفضل في جمعه لذلك الدمشقي الذي لم يسمه ابن خلكان.
وبين يدينا ديوان محقق على ثماني نسخ مخطوطة من هذا الديوان: نسخة الظاهرية، نسخة كمبردج، نسخة الصافي، النسخة الموصلية، النسخة الباريزية، النسخة الحجازية، النسخة المصرية.
أما عمل المحقق في الديوان فقد كان على الوجه التالية كل بيت في النسخ الثماني المختار ما يبدو له أنه أصح رواية، ويذكر في ذيل الصفحات اختلاف الروايات في بقية النسخ. وقد رأى بعض القصائد والمقطعات مقتسرة في أبوابها، وهي لا تخرج عن معنيين: الحنين إلى دمشق، والدعابة، فجعلتهما في بابين: دعوى لأول باب الحنين إلى دمشق، والثاني باب الدعاية والتهكم والسخرية.
وقد بدل بعض الحروف يفي كلمات معدودات في باب الهجاء، تماجن بها الشاعر فذكر العورات والمقاذر، فخذفت شكلة الكاف، وجعلها لاماً، كما جعل الخاء وحاءً، والراء دالاً، تفاديأً من الجهر بالسوء في بعض المواطن، وعلى أن البدل بدل على المبدل منه ويشير إليه. وألحق بالديوان تتمة أسماها "المستدرك من شعر ابن عنين" جمع فيها ما عثر عليه في بعض كتب التاريخ والأدب من شعره، مما لم يرد في النسخ الثماني من الديوان. إقرأ المزيد