تاريخ النشر: 30/11/2008
الناشر: منشورات الجمل
نبذة نيل وفرات:الرسالة التي بين يدينا هي على جانب كبير من الأهمية، إذ إنها تمثل بعض مظاهر النثر وتطوره في هذا العصر الذي ندرسه ونؤرخه، وسوف نلاحظ أن أسلوب المؤلف حر طليق غير مقيد بالتصنع السجعي والبديعي مما كان معروفاً؛ أضيف إلى ذلك أيضاً أن الرسالة المذكورة، على صغرها، تمثل مظهراً ...من مظاهر الحضارة لأنها تحتوي على ما هو معروف في الحياة الإجتماعية من أسماء الأطعمة والمآكل والأشربة وما يتعلق بها من ذذكر المائدة والسفرة والصحاف والقصاع وغير ذلك مما تطالعنا به الرسالة المذكورة.
زد على ذلك أيضاً أنها توضح بعض العادات الإجتماعية والتقاليد الحضارية المرعية في عصر ننعته بالإنحطاط والعقم والجمود والتأخر، وأعتقد أننا قلَّ أن نعثر في آداب الأمم الأخرى على مثل هذه الرسالة التي أوضحت العيوب القبيحة عند الأمم كلها، وغرض المؤلف من إيرادها حث الناس على تجنبها لأن من عرفها، وتقيد بها كان خبيراً بآداب المؤاكلة كما يقول المؤلف نفسه.
كما تدل هذه الرسالة الطريفة على دقة المؤلف في إختيار النعوت والمسميات، ذكر (النهم) وشفعه بثلاثة نماذج، فتحدث عن (النهم الناثر)، و(النهم الصامت)، (والنهم المسابق)، وكرر قوله: "وهو من قسم النهم أيضاً" ثلاث مرات، ولا شك في أن المؤلف كان ينطلق من وصف ذلك كله من منطلق نفسي، ومنطلق إجتماعي من خلال رؤية ذاتية.
يضاف إلى ذلك كله هذا التحليل الدقيق في إطلاق النعوت، فتحدث عن (الموزع) وأشار إلى أنه "هو أيضاً فضولي"؛ ولم يكتف بذلك، وإنما كان يشير إلى الصفات المتضادة، فقد أورد ذكر (حاطب ليل) وأورد بعده مباشرة (الصعب) وشرحه بقوله: "وهو ضد حاطب ليل".
وهذه الدقة اللغوية في أنواع النهم الثلاثة، والترادف، والتضاد تعطينا فكرة عن أصالته اللغوية في إشتقاق الألفاظ وتوليدها، ومن باب الترادف ما ذكره وما سمعه مكرراً على الألسنة، فقد ذكر (المقطّع)، وقال: أنه يسمى (القطاع) وذكر (اللطاع)، وقال: أنه يسمى (اللحاس) وذكر (الممتحن)، وقال: أنه يسمى (المحس) و(المحتال) وذكر (المغالي)، وقال: أنه يسمى (المستغنم) وهكذا يبلغ عدد المترادفات سبعاً وثمانين لفظة، وليس إيجادها بالأمر السهل.
نعود إلى ما بدأنا به لنلاحظ أول ما نلاحظ أن الغزي استخدم ألفاظاً عربية أصيلة معروفة عند العرب قديماً، ونلاحظ أنه استخدم ألفاظ معربة، عرّبها العرب، وكانت مستعملة في عصره، أو معروفة قبله كالجردبيل والطباهج والسكرجات والرشتا، بعضها لم تورده معاجم اللغة.
ونلاحظ أيضاً أنه استخدم بعض معاني الألفاظ في غير ما وضعت له، فقد كان بعضها منقولاً من الإستعمال العامي، وبعضها الآخر من إبتكاره وإجتهاده الخاص، وقد جاز لنا ابن الأثير مثل هذا الأمر، واشترط في المعنى المنقول أن يكون غير مستقبح أو مستكره، كما هو الشأن في إستخدام (حاطب ليل) و(المنقط) و(المرنَّخ) و(الملقوّ)... إقرأ المزيد