تاريخ النشر: 01/01/2012
الناشر: منشورات الجمل
نبذة الناشر:هذه الوجوه التي تنظر إلي. هذه الوجوه التي تبتعد. هذه الوجوه التي أتطلع إليها من وراء زجاج الباص، ستكون هي العراق. ستكون هي كل ما تبقى لي من العراق. عساني أحمل انعكاسها فيّ إلى الأبد. لا بد من ذلك كي أحتفظ بطفولتي". بهذه الكلمات أنهى الكاتب الكندي من أصل عراقي ...نعيم قطان روايته "وداعا بابل" ، وهي كلمات مؤثرة تعبر عن معاناة عظيمة لشخص يغادر وطنه الذي لم يعرف سواه حتى تلك اللحظات الفاصلة موقناً أنه لن يرى هذا الوطن ثانية.
باختياره عبارات تليق بموقف مثل هذا، كان نعيم قطان الروائي اليهودي المولود في بغداد عام 1928 يقتفي خطى كتاب يهود ولدوا في العراق وغادروها في زمن ما بين نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات من القرن الماضي، فكتبوا عن اللحظات الأخيرة التي وقعت فيها أعينهم على وطنهم الذي ابتعدوا منه وابتعد منهم بلوعة وألم كبيرين..
غير أن قطان الذي نسج على منوال زملائه في تصويره المشهد الأخير للأرض العراقية التي غادروها شباناً يافعين اختلف عنهم في كل شيء آخر تقريباً. وإن كان السبب في التقائه مع زملائه من الكتاب اليهود العراقيين في هذه الجزئية ذلك الطابع الاستثنائي للحظة الفراق الأبدي مع الوطن، وهي لحظة لم يختبرها للمفارقة سوى الفلسطيني الذي غادر وطنه في لحظة مماثلة، فإن افتراقه عنهم يأتي من التجربة المختلفة عن تجاربهم. وحياة الراوي في العراق التي انتهت بتلك اللحظة الرهيبة كما رسمها الكاتب، تشير إلى تجربة تختلف تماماً عن تلك التي رسمها الكتّاب الآخرون. ففي حين رسم أولئك الكتاب صورة لمجتمع التقى فيه المسلمون والمسيحيون واليهود لبناء مجتمع متسامح تترسخ فيه مفاهيم العدل والمساواة وتتقدم فيه المواطنة على ما عداها باعتبارها أساس العيش المشترك لكل الأديان والطوائف والقوميات حتى جاءت لحظة الرحيل، وهي لحظة ملتبسة تضافرت فيها عوامل السياسة في أبشع صورها مع احتقان اجتماعي وصل ذروته في تلك اللحظة الفاصلة وضغوط نفسية لا قِبل لكثير منهم على احتمالها، فإن قطان في "وداعا بابل" لم ينطلق من هذه الحقائق، بل كانت له منطلقاته المختلفة التي حكمها اختلاف التجربة مثلما حكمها الشكل الذي اختاره قطان لروايته، وهو شكل السيرة الذاتية الساردة بضمير المتكلم...
وباختياره الكتابة عن العراق باعتباره "مكاناً" يعيش فيه أناس من طوائف متعددة وقوميات مختلفة وأديان متباينة، يفشل قطان في رسم صورة لوطن، وذلك بعكس ما فعله كثير من الروائيين اليهود من ذوي الأصول العراقية. فالعراق الذي رسمه لنا قطان ليس وطناً ولكنه فسيفساء من الطوائف والأديان والقوميات والمذاهب التي تتناحر في ما بينها على كعكة الحياة الاجتماعية المريحة التي يحتكرها المسلمون: "لم أجرؤ على المغامرة مرة وحيداً في صالة مظلمة. فما إن يسري الخبر بأنني يهودي حتى ينقض عليّ الأطفال في مثل سني مسلمين ومسيحيين ويشبعوني صفعاً وركلاً".
إن صورة مسطحة مثل هذه ترسم عراقاً منقسماً في شكل يصعب تصوره لمجتمع مفكك، قاس وانتقامي ومتوحش، وهي صورة تضلل ولا تدلل، وتخفي أكثر مما تكشف. فالمؤلف الذي يجعل من صورة مثل هذه نموذجاً للمجتمع العراقي يختار البقاء طافياً على السطح ولا يدخل عميقاً في أغوار ذلك المجتمع لكي يرسم الصورة كاملة بما فيها الصراعات الاجتماعية في داخل الصف المسلم، ليس بين شيعة وسنة فقط أو بين عرب وأكراد فحسب كما يشير قطان، بل إلى الصراعات الطبقية والاجتماعية والسياسية، وهو لا يدخل عميقاً في الصف اليهودي ليكشف الصراعات بين يهود صهاينة ويهود شيوعيين، بين يهود فقراء ويهود أغنياء، يهود تراودهم أفكار الرحيل عن وطنهم وآخرين يناضلون مع عراقيين من طوائف وقوميات وأديان أخرى من أجل عراق حر ومتقدم.
ساهمت في رسم هذه الصورة المرتبكة عن عراق الأربعينات مراوحة قطان بين فني السيرة الذاتية والرواية. فبدلاً من أن يبلور شخصيات روائية تعبر عن الجو العام والاتجاهات الأساسية في المجتمع العراقي، اختار أن يقدم شخصيات ومشاهد كل مقوماتها أنه كان هو نفسه عارفاً لها وشاهداً عليها في أثناء وجوده في العراق قبل أن يرحل عنه إلى باريس في بعثة دراسية غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم أن رحيل الراوي/قطان لم يكن جزءاً من عملية الرحيل الجماعي التي تعرض لها يهود العراق في نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات، فإنه صورها وكأنها جزء من نزوح جماعي ليهود العراق عن أرض بابل التي حلوا بها مسبيين قبل خمسة وعشرين قرناً. - الحياة - إقرأ المزيد