الاستشراق ؛ الاستجابة الثقافية الغربية للتاريخ العربي الإسلامي
(0)    
المرتبة: 35,610
تاريخ النشر: 01/03/2006
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
حمّل iKitab (أجهزة لوحية وهواتف ذكية)


نبذة نيل وفرات:دشنت عصور النهضة والاستنارة ومن ثم الثورة الصناعية طرائق جديدة في تناول الشرق العربي الإسلامي، ليس فقط بسبب ظهور ما يسمى بحركة "التاريخ الجديد" الموضوعي الذي تطلب توظيف الأدوات الأكاديمية والوثائق العلمية الدقيقة، بل كذلك بسبب حاجة الذهنية الأوروبية للمقارنات وللمقاربات مع "الآخر"، الآخر التاريخي (بمعنى المقارنة بماضي أوروبا ...الوسيط ذاته)، والآخر ولكن على المرء الاعتراف بأن محاولات البحث عن مصادر علمية دقيقة عن الإسلام والعرب تعود في أصولها الأولى إلى سنين سابقة، متجسدة في ترجمة سيل (Sale) لأهم وثيقة إسلامية، القرآن الكريم.
ولكن في الفترة التي شهدت الخروج عن الشكل الوسيط للمجتمعات الأوروبية، وشهدت الاهتمام باللغات القومية (بديلاً عن اللاتينية)، استحال الاستشراق في أوروبا من جهد تخيلي أو افتراضي، مبتنى على التكهنات وتوارث الأنماط السائدة، إلى جهد أكثر ميلاً إلى العلمية والوقوف على المصادر الأصلية على نحو مباشر، وليس عبر التقارير التي كتبها الأوروبيون. الأمر الذي أفضى إلى إطلاق الاستشراق من حقل الخياليات إلى حقول علمية أو نصف علمية تستدعي الدراسة والرصد، والبحث والاستقصاء. هنا تبلورت دوافع ترجمة التواريخ الكلاسيكية العربية والإسلامية إلى اللغات الأوروبية.
وهكذا تشعب الجهد الأوروبي إلى فروع للدراسات الاستشراقية، وبخاصة مع الثورة الصناعية وبدايات الحاجة للاتصال بالشرق على نحو مصلحي. لقد كانت يقظة فكرة بناء الإمبراطورية من أهم مسببات الحاجة إلى المعرفة، معرفة الشرق العربي الإسلامي، ماضيه وحاضره، شعوبه، وتنوعاته. هذه هي المرة الأولى التي ظهر فيها المستشرق الأوروبي عبر إقليمينا على أشكال متنوعة، منقباً آثارياً أو مؤرخاً أو مترجماً للتراث العربي الإسلامي أو كاتباً حراً، من بين أشكال أخرى. لذا كان ظهور هذا النوع من التخصص في الشؤون العربية الإسلامية من أهم عوامل تشجيع الارتحال إلى شرقنا لمحاولة سير أغواره، ليس من خلال الحرف المكتوب والصفحة المطبوعة، ولكن من خلال المعايشة والارتماس بمياه العالم الشرقي على نحو مباشر.
بيد أن ظاهرة الارتحال إلى الشرق والانغمار بأعماقه كانت تبدو للجمهور الأوروبي عملية مثيرة بسبب الصعوبات والمخاطر التي يواجهها الرحالة المغامر الذي يأخذ على عاتقه مهمة تعريف القارئ على عالم مختلف، عالم منفلت من الزمن ومن رتابة ذبذبة الماكنة في المدينة الصناعية. الأمر الذي جعل من الشرف مهرباً ومآلاً لأعين هؤلاء الذين وجدوا فيه مادة غنية وأرضاً خصبة بكراً للتأمل ولابتكار الجديد من المواد والمواضيع المناسبة للكتابة وللتفكير.
لذا لم يعد المشرق العربي الإسلامي هو "أرض الكتاب المقدس" فقط، بالنسبة إلى الأوروبيين المتدينين، وإنما صار كذلك عالماً موازياً وبديلاً وأداة نقدية لمقارعة الاختلالات الاجتماعية السياسية والدينية المحلية في أوروبا. هذا ما يفسر ذهاب الروائيين والشعراء، من غير المغامرين والباحثين عن الكنوز والآثار، إلى الشرق بحثاً عن التيقن ورصداً لعالم مختلف، عالم برهن للعقل الأوروبي، لأول مرة أن هناك حضارات شرقية أقدم من الحضارتين الإغريقية والرومانية، وهي حضارات وديان الأنهار العظيمة، كالرافدين، والنيل، والسند.
وإذا كان القسم الأول من هذا الكتاب قد ركز على ما سبق الإشارة إليه من "أطر نظرية وتاريخية" فإن القسم الثاني يركز على "التطبيقات" وعلى آثار تلك الأطر القديمة التي بقي العقل الأوروبي حبيساً لها. لذا فإن الفصل الثالث من الكتاب يستل من بين أهم كتاب العصر الفيكتوري الكاردينال نيومان، زعيم حركة أوكسفورد وواحداً من أهم منظري "فكرة الجامعة"، ليس بسبب دوره الثقافي والديني المهم، بل كذلك بسبب تجاوز غالبية دراسات نقد الاستشراق لواحد من أهم كتبه المنسية، تصويرات تاريخية: الترك وعلاقتهم بأوروبا. يأتي هذا الكتاب على خلفية حرب القرم ودخول الدولة العثمانية أتونها، كمحاولة تورخة "كاثوليكية" للترك ولدينهم.
ويرصد الفصل الرابع الأفكار الشائعة في الغرب حيال موقع المرأة في الإسلام، ككينونة حسية تقبع في "سراي" الأغنياء والمتنفذين المغرمين بتعدد الزوجات. هذه المفاهيم المسبقة تجد صداها في كتاب مارتنو "الحياة الشرقية حاضراً وماضياً"، وبخاصة أنها تبحث أ,ضاع المرأة المسلمة في مصر، كطريقة للبرهنة على صدق هذه الأفكار المتوارثة.
وإذا كانت آراء مارتنو حول المرأة المسلمة مبتناة على الملاحظة المباشرة وليس على دراسة الفكر والفقه الإسلامي، فإن آراء رتشارد بيرتون الذي قضى أكثر من ربع قرن في ترجمة ألف ليلة وليلة إنما تدعي المعرفة بالإسلام وبعقائده، بتقاليده وقصته التاريخية. لذا يعد مؤلفه المهم المقالة الختامية الذي أنهى به ترجمة الليالي العربية مدخلاً مهماً آخر لتناول أوضاع النسوة في العالم الإسلامي، باعتبارها أوضاعاً أفضل بكثير من حال المرأة المتدينة في أوروبا، حيث يعتبر عدم الاستحمام والرهبنة (كما يقول) من شروط التدين الحقيقي.
ويتناول القسم الثالث من الكتاب الذي بين يدينا الاستشراق الأمريكي بفصل عام يتتبع بواكيره وتبرعماته التالية، إضافة إلى إلقائه الضوء على عدد من منطلقاته الفكرية، دوافعه وإرهاصاته. إن الحديث عن الاستشراق الأمريكي غالباً ما يرادف الاستشراق الحديث، ليس لأن الاستشراق الأوروبي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن بسبب بروز وتفوق الاهتمام الأمريكي بالشرق بعامة، وبالشرق العربي الإسلامي بخاصة، تبعاً لمعطيات التقدم المادي ولتصاعد مؤشرات المصالح الأمريكية في إقليم الشرق الأوسط عبر الحرب الباردة، وما تلاها من تطورات جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية القطب الواحد الأكثر تأثيراً في الساحة الدولية. ويمكن كذلك رد الاهتمام الأمريكي بالمشرق العربي الإسلامي إلى تحالف الولايات المتحدة مع إسرائيل وإلى تبلور الحاجة لمعرفة شعوب الشرق الأوسط المحيطة بها، زيادة على الاهتمامات الاقتصادية التي تتمركز على البترول.
أما القسم الرابع والأخير من هذا الكتاب، فإنه يقع في فصلين: الفصل العاشر، وهو محاولة لجمع خيوط طرائق مباشرة الماضي العربي الإسلامي منذ العصر الوسيط حتى عصرنا، مع إشارة خاصة إلى محاولات المستشرقين تعريف دورهم الاجتماعي من خلال توظيف تاريخنا بأساليب متنوعة، أما الفصل الحادي عشر، تواصلاً مع الفصل الذي يسبقه، فهو محاولة للمقارنة والمقاربة بين طرائقنا، العربية الإسلامية، في مباشرة هذا التاريخ، من ناحية، وبين طرائقهم (الغربية، الاستشراقية) في مباشرته وتحليله.
لذا تم استحضار أهم المنطلقات الفكرية العربية والإسلامية المعاصرة على سبيل البرهنة على أن هذا الماضي إنما هو كينونة حيوية ومولد فاعل في صناعة التاريخ المعاصر واستشراف المستقبل لدى العرب والمسلمين اليوم. لقد كان هذا الماضي بالنسبة إلى العقل الغربي يبدو نموذجاً طللياً يستحق الدراسة والرصد، ولكنه غير قادر على التوليد والانبعاث. وإذا كانت "الخاتمة" تلخص أهم نتائج الدراسة، فإنها كذلك تمهد الطريق للمزيد من الباحثين لدراسة هذا الموضوع الحساس واستقصائه على سبيل سبر أغوار وطبيعة التعامل الاستشراقي مع الشرق العربي الإسلامي ماضياً وحاضراً. إقرأ المزيد