تاريخ النشر: 01/02/2004
الناشر: المنظمة العربية للترجمة
نبذة نيل وفرات:كتب إريك وولف في عام 1968 أن على الانتروبولوجيا أن تكتشف التاريخ، التاريخ القادر على بيان أسباب نشوء النظام الاجتماعي للعالم الحديث، والذي من شأنه أن يقدم تفسيراً ذا معنى تحليلي لسائر المجتمعات بما فيها مجتمع الكاتب الأوروبي. فمثل هذا التاريخ التحليلي بات في رأيه مطلوباً، من أجل التصدي ...لصعود نوع من العقلانية الشكلية التي لم تعد تبحث في أسباب الفعل الإنساني بل باتت تكتفي بالتماس حلول تقنية مجردة لمشكلات منظورة من منظار تقني في المقام الأول. فكان لا بد من وقف الانحدار إلى مهاوي التفاهة وذلك بالبحث عن أسباب الحاضر في الماضي.
تلك برأي الكاتب الطريقة الوحيدة التي كان من شأنها تمكين الباحثين من فهم القوى التي تسيّر المجتمعات والثقافات وتتحكم الآن في المجتمع الأوروبي وحتى في سائر المجتمعات. هذه هي قناعات أريك وولف التي أفرزت كتابه هذا الذي ينصبّ بالتأكيد المركزي فيه على أن عالم الجنس الإنساني يشكل جملة شمولية متعددة الوجوه من السيرورات أو العمليات المترابطة، ومناهج البحث التي تقطع هذه الكلية إلى نتف ثم تخفق في إعادة تجميعها، فتزوّد بذلك الواقع. فمفاهيم "الأمة"، "المجتمع" و"الثقافة" لا تشير إلا إلى مزقٍ وتنطوي على خطر قلب الأسماء إلى أشياء. وليس بالاستطاعة تجنب التدخلات المضللة وزيادة فهم هذه الأمور إلا من خلال الإحاطة بهذه الأسماء بوصفها حزماً من العلاقات، والعمل على إعادتها إلى الميادين التي تمّ تجريدها منها. حيث بات شائعاً القول أن العالم بكليّته يقيم في "عالم واحد". ومن هنا يطرح المؤلف سؤالاً عما كان سيتغير في فهمنا لو تم النظر إلى العالم ككل، كوحدة شاملة، كمنظومة بدلاً من اعتبارها حصيلة جمع سلسلة من المجتمعات والثقافات المنطوية على ذاتها، لو تم إدراك وبشكل أفضل حقيقة أن هذه المنظومة الكلية تطورت عبر الزمن، وأن التكتلات الإنسانية هي متشابكة تشابكاً لا انفصام له مع تكتلات أخرى، قريبة وبعيدة، في روابط متواشجة ومتداخلة وذلك عند البحث عن جملة الأسباب والنتائج الفاعلة في حياة الكتل السكانية المحددة، لو تم إدراك وفهم ذلك كله، لتمكن الباحث من رؤية المجتمعات البشرية ممتدة إلى ما بعد أية كتلة سكانية بعينها لتحتضن مسارات الكتل الأخرى جميعها.
من أجل هذا الهدف قام المؤلف في دراسته لواقع التكتلات البشرية المتداخل بإلقاء الضوء على تاريخ أوروبا حيث اضطلعت أوروبا في فترة تاريخية معينة بدور استثنائي الأهمية، معتبراً عام 1400 منطلقاً على مسار الزمن، لبيان طبيعة ذلك التوسع، حيث بات العالم في تلك الفترة زاخراً بفيض من أشكال الترابط والتواصل الإقليمية، ويذكر الكاتب بأن الانتشار اللاحق للأوروبيين عبر المحيطات ما لبث أن أوصل الشبكات الإقليمية إلى مستوى التناغم والتنسيق الشامل للعالم، ليخضعها لإيقاعٍ ذي أفق كوكبي حاضن لهذا العالم مما أدى إلى إقحام أناس من أصول متباينة وبنى اجتماعية مختلفة وجعلها مشاركة في بناء عالم مشترك.
وهكذا، فإن كشف النقاب عن الترابطات بين الكتل البشرية هي إحدى مهمات إريك وولف في دراسته هذه منطلقاً من القناعة باستحالة فهم هذه الروابط ما لم يتم إرجاعها إلى الأحوال الاقتصادية والسياسية التي أفرزتها وحافظت عليها.
وبغية تسليط الأضواء على المرتكزات المادية لهذه الترابطات، اعتمد إريك، وكما يقول "من دون حرج"، على مفاهيم مستمدة من خزان الأفكار الماركسية، مقتبساً من ماركس تلك الفكرة الأساسية التي تقول أن الحياة الاجتماعية تتشكل بالطريق التي يتبعها الناس في التشابك مع الطبيعة عبر الإنتاج، مستفيداً أيضاً من نظرية القيمة الماركسية للعمل، من التمييز بين رأس المال المركانتيلي من جهة، ورأس المال الصناعي من الجهة المقابلة، ومن نكرة الموجات الطويلة للتطور الرأسمالي. لقد حاول المؤلف التعامل مع هذه المفاهيم كأدوات فكرية، لا كحقائق نهائية، ففائدتها كما يرى تكمن في قدرتها التوضيحية.
بالإضافة إلى ذلك ثمة مفهوم ركن إليه إريك. وهو المفهوم ذاك مكلًّف بالكشف عن العلاقات المفتاحية التي يتم اعتمادها في جعل العمل يفعل فعله بالطبيعة، ألا وهو مفهوم نمط الإنتاج، إذ أن المؤلف اعتبره في دراسته هذه ذا وزن تحليلي استثنائي. وأخيراً أن هذا الكتاب يقوم على الجمع بين اكتشافات الاختصاصات المختلفة وعلى تغطية أمداء واسعة من زمان التاريخ ومكان الجغرافيا، وبالإضافة إلى ذلك هو حصيلة تراكمية للعديد من التجارب والجهود البحثية، لذا كان للمؤلف وفي نهاية الكتاب مناقشة لمصادره، وهذه المناقشة شكلت، إلى حدود معينة، سيرة ذاتية فكرية في الوقت نفسه. إقرأ المزيد