تاريخ النشر: 07/04/2025
الناشر: كليوباترا للنشر والتوزيع
نبذة الناشر:إذن وجب على الحكيم الذي يبحث في الأحوال الاجتماعية أن لا يغفل عما لهذه الأحوال من القيمة العملية بجانب قيمتها العلمية، وأن الأولى هي التي لها شيء من الأهمية في تطور المدنيات، وملاحظة ذلك تقتضي الحيطة والحذر من الوقوف عند ما قد يسوق إليه الاستنتاج المنطقي بادئ بدء.
وهناك أسباب ...أخرى تدعو إلى هذا الحذر منها أن الأحوال الاجتماعية عويصةومشتبكة يتعذر على الباحث أن يحيط بها كلها وأن يتعرف ما لها من التأثير وما بينها من التفاعل، ومنها أن وراء الحوادث الظاهرة مؤثرات خافية كثيرة.
إذ يظهر أن الأولى ليست إلا نتيجة عمل عظيم يقع على غير علم منا، وهو في الغالب فوق بحثنا، فمثل ترجم فوق سطح البحر عما هو واقع في الحوادث الظاهرة مثل الأمواج المتلاطمة التي تترجم فوق سطح البحر عما هو واقع في جوفه من الاضطرابات التي خفيت عنا، ونحن إذا نظرنا إلى الجماعات نراها تأتي من الأعمال بما يدل على انحطاط مداركها انحطاطًا كليٍّا، غير أن لها أعمالًا أخرى يظهر أنها منقادة فيها بقوة خفية سماها الأقدمون قدرًا أو طبيعة أو يدا صمدانية، وسماها أهل هذا الزمان صوت من في القبور.
وعلى كل حال لا يسعنا أن ننكر ما لها من القوة وإن جهلنا كنهها، وكثريًا ما يظهر أن في باطن الأمم قوى كامنة ترشدها وتهديها أنك لا تجد أكثر تعقيدًا ولا أدق ترتيبًا وأجمل خلقًا من اللغة، وما مصدر هذا الشيء الغريب في شيئًا نظامه العجيب في أسلوبه إلا روح الجماعات تلك الروح اللاشاعرة وأعلم المجامع العلمية وأرقى النحويين إنما يجهدون النفس في تدوين قواعد اللغات وهم لا شك عاجزون عن خلقها، كذلك لسنا على يقين من أن الأفكار السامية التي يحدثها النابغون من فطاحل القوم إنما هي عملهم خاصة، نعم هم الذين أوجدوها، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن ذرات التراب التي تراكمت فصارت منبتًا لتلك الأفكار إنما كونتها روح الجماعات التي وجد أولئك النابغون فيها مكانها أن نَصيب اللاشعور في جميع أعمال الإنسان عظيم وافر ونصيب العقل فيها صغير للغاية.
والأول يعمل ويؤثر كقوة لا تزال معرفتها غائبة عنا وعليه إذا أردنا أن نقف عند الحدود الضيقة المأمونة في معرفة الأشياء من طريق العقل ولا نهيم في أودية التخمينات المبهمة والفرضيات العقيمة لزمنا، أن نقتصر على تقرير الحوادث التي تقع تحت حواسنا، وكل استنتاج مبني على هذه المشاهدات بعد ذلك يكون تسرعًا في غالب الأحيان؛ لأنه يوجد خلف الحوادث التي نراها جيدًا حوادث لا نراها رؤيا ناقصة، وقد يكون وراء هذه غيرها مما لا نراه. إقرأ المزيد