تاريخ النشر: 01/05/2015
الناشر: مداد للنشر والتوزيع
نبذة نيل وفرات:"كان وحده، وقف أمام الزنزانة فكشف لسان السراج المتراقص سمْته، أول ما بدا منه عيناه الواسعتان ترفد حدقتاهما السوداوان الليل بمزيد من السواد. وقف في جلبابه الأسود مدمجاً بالسلاح، أصلح من وضع عمامته، ثم أدخل المفتاح الحديد الكبير في قفل باب الزنزانة، أداره ببطء، صرّ الباب وأطلق أزميراً معدنياً ...بارداً ثم انفتح، خطا داخلاً في خطوٍ ثقيل، لم يُغلق الباب من ورائه بل تركه مفتوحاً، فانتبهت كاجين لذلك. كان صوت أنفاسه يعلو بطيف من لهاث.. دنا منها، نظر إليها على ضوء السراج. جلس في صمت وفي هدوء. تقدّم الليل صوب الفجر. ظلّ جاثماً، لاح وكأنّه يرتعد في جلبابه الأسود من الحمى التي يغلي بها جسده. وطال صمته.. كان يتوقع انقضاض طائرات التحالف على بقية القوات، على آبار النفط بين دقيقة وأخرى، ومع مرور الوقت كان يزداد قناعة بأنها ستأتي ستهاجم.
وتألم من ضرب الطائرة في كبده، بقي يشعر لحظة بعد أخرى بأنّه كان ضحية ألمٍ خالد. ثم رفع عينيه وحدّق في عيني كاجين وتمتم: "لماذا هربتِ مني؟ قولي لي لماذا هربتِ مني؟" سأل بعتاب، بملام وعيناه الواسعتان تطوفان، فلاحت في حدقتيهما السوداوين سمة من بياض حزين، مالبثت أن صارت إلى مسحة من ضعف كسا ملامح الوجه المثلث العليل كلها، سهر الليالي المتصل رسم أهلّة سوداء تحت جفنيه الأسفلين. "لماذا هربتِ؟" عاد يسأل وقد عادت لوجهه بعض قوة امتزجت بمسحة الحزن والضعف فيه حدّقت فيه بكل جمال وغموض وسعة عينيها الخضراوين، فاختلج فكّه الأسفل ثم ارتعش.
"أنت غاضب مني، أليس كذلك؟ سيدي معاون الخليفة؟ سيدي لا تغضب من سَبيَتك. أرجوك." وسكت ثم أشرعت على ضوء السراج الشحيح لَحَظَها في عُمق عينيه وأضافت بنبرة ليّنة: "سيدي سَبِيَتُكَ المُطيعة تسأل: هل أنت غاضب مني؟" تنهّد ثم زفر: "كنت غاضباً، أما الآن فلا أدري...
ساد صمت لوقت، لكنّه قطعه حين قال: " كنتُ أريدك أن تكوني معي حينما أدخل بغداد ، كنت سأتزوجك." وسكت فارتفع صوت السراج يطقطق وهو يرشف بلسانه الأصغر من جسم الظلام..."لكنكِ هربتِ فصرتِ نائية، والآن بغداد نائية، نائية جداً، لعل هروبكِ كان نذير شؤم." "اغفر لي يا مولاي إن كان ذلك كذلك"... "وإذا غفرت لك..."،... "سأكون زوجة مُطيعة..." وماكادت تنتهي من جملتها حتى تعالى أزير طائرات تمرق في سرعة هائلة وهي تحلّق في سماء الموصل... ثم بدأ القصف فسُمع صوت القذائف وهي تُرمى ها هنا وها هناك في القريب جداً.... ثم اندلع الحريق.
"يبدو أنّهم قرروا أن يقتلوني في الموصل! لم أرد النهاية هنا... بدأت الغارات أثناء غيابك، أجبرتني على التراجع من مشارف بغداد، حطموا الحلم، واليوم يبدو أنهم قد قرروا ملاحقتي وقتلي في عقر داري، في الموصل، إنهم يكرهونني. إنهم يكرهونني.. وأنا أيضاً أكرههم.." ولوهلة تذكّر يوماً في قاعة التذاكر في محطة قطارات كلفها م جنكشن، تقدّم ليشتري تذكرته فسمع صوتاً ينبهه: "هالو! ثمّة أناس قبلك هنا! ثمّة صف! عليك الذهاب إلى آخر الصف". رفع عينيه وتفرّس في هيئة المتحدث. كان إنجليزياً أبيض في الخمسين من عمره تقريباً، نظيفاً حليق الوجه، على وجهه نظارة طبية سميكة... ابتعد سامي حمدان عن شباك التذاكر ثم خطا صوب الرجل وجسمه يشتعل بغضب كالحمى، كان فكّه الأسفل يرتعش، وحدقتا عينيه السوداوان تفيضان بظلمة كقلب الشيطان، مباشرة ومن دون مقدمات انهال على الرجل ضرباً ولكماً وركلاً، هوى الرجل على الأرض... تحطّمت النظارة الطبية، سال الدم وجاءت الشرطة... صبيحة الغد ولما مَثِل أمام القاضي في الماجستريت كورت، سأله القاضي: "كيف تفسّر ردّ الفعل هذا؟ بحسب الشهود فإنّ المجني عليه لم يقل شيئاً سوى أن نبّهك للصف... ماذا تقول؟" .."أقول إنّي أكرهه. إنّي أكرهه"... لم يكن القاضي ولا المجني عليه ليعلما يومئذ بأن الغضب في روح ذلك الصبي سيشعل التاريخ ناراً.
واليوم فإن طائرات التحالف تهجم بقوى وأعداد لا تتناسب مع قوته، لا بد أنّ الإنسان يدفع ثمن أعماله قبل أن يُغادر هذه الحياة! لكن إن كان هناك شيء مؤكد واحد فهو أن سامي حمدان قد أشعل التاريخ واشتعل. والآن في هذا الفجر، في الخارج، خارج الزنزانة، طغى هرج وساد مرج بينما انطلق فولاذ الطائرات يطفي غلالة الفجر فيمزقها تمزيقاً.
وها هو ذا جاثم، قد بقي في مكانه، تأملته كاجين بعينين متفحصتين، فلاح كأنّه يشيخ مع تقدم اللحظات؛ وسط أصوات القصف وتوهج النيران إثر الانفجارات المتتالية، راحت تنظر غلى الرجل الذي قتل أمها وأباها، قتل جيهان وقتل عم كامل الفرّاش، قتل ماونت، مثلما قتل الآلاف، تحوّلت غلالة الفجر الرهيفة التي تفصل بينهما إلى بحيرة من دمٍ قانٍ، ثم وبعد لحظة، تحوّلت إلى بحرٍ هادر، ثم لم تعد ترى بينه وبينها إلّا الدماء. بدا مؤكّداً أن الذي يفصل بينها وبينه ليس فراغ وهواء الزنزانة وإنما هو بحر من الدماء.
تسارعت نبضات قلبها ورأسها يحتشد بالأفكار. لكنّها تمالكت رباطة جأشها وقالت بهدوء، بصوت أنثوي دافئ ماكر: "مولاي! سيدي! تبدو مثقلاً بكل هذا السلاح الذي تحمله! لماذا لا تخفف منه!"..."
سامي حمدان.. جلباب أسود وعباية سوداء ... وطائر أسود يضرب بأجنحته الشرسة السوداء كبده.. ليصبح مشروعاً جهادياً في تنظيم القاعدة ثم داعش بعد أن كان مشروع انسان طموحه أن يبلغ مرتبة عالية في مهنة المحاماة.
خطا خطواته الأولى على هذه الدرب من خلال مشورة زميل له اسمه برويز، مسلم من باكستان كان يتعلّم العربية، والذي نصحه بالتردد على مسجد فينزوي بارك حتى ألفه ونشأ بينه وبين الإمام وهدان شيء من ودّ... ساقه هذا الانغمام إلى الجماعة ونصر من بعد نصر، وسامي حمدان يبدو كما لو كان موجوداً في كل مكان... في كل آن بِسمْتِه القاسي والجاد كان يبدو رجلاً بعيد الهمة... وعقب كل انتصار كان يسمع في أذنه صوتاً يناديه: " يا سامي حمدان، أنت كل شيء، أنت كل شيء" ومع تقدم الربيع في نهاية مارس، كان قد رسّخ أقدام الدولة الإسلامية في الحسكة، في دير الزور في الرقة التي صارت عاصمة آمنة يقبع فيها الخليفة. ولينهي المطاف بسامي حمدان والذي بيده ذبح الكثيرين ليكون معاون الخليفة الذي طغنته سبية يزيدية. إقرأ المزيد