تاريخ النشر: 01/01/1993
الناشر: عويدات للنشر والطباعة
نبذة نيل وفرات:هل يمكنُ لكتابٍ متواضع الحجم أنْ يتناول موضوعة كبرى، كجغرافيا الحضارات، وأنْ يفي بالغاية التي يرجوها القارئ، وهي فهم البنية الحضارية لعالم اليوم والغد؟ هذا ما يراهن عليه، بموضوعيّة كتابُ رولان بريتون، الذي عربَّناه تلبيةً لحاجةٍ ملحّة في ثقافتنا العربيَّة؛ وهو بذاته مدخلٌ دقيق إلى تاريخيَّة الحضارات من بابها ...الجغرافيّ، إذْ لا تاريخ، لا وجود تاريخي، بلا هذه الصور الدقيقة لتقاسيم الجغرافيا البشرية، التي دأبَ أسلافنا على إبرازها (مصادر الجغرافيا البشرية عند العرب والمسلمين، لأندريه ميكيل، مثلاً)؛ ولكن الصورة لم تكتمل، لدرجة أنَّنا بتنا نتساءل: أين موقعنا الحضاري العربي الإسلامي، بالمقارنة مع الحضارات الكبرى الأُخرى، التي ادَّعى الغرب "المسيحي" إختصارها في "حضارته" دون سواها؟
هذا الكتابُ يشكّل مقروئيَّة صحيحة، على تواضعها وربما بسبب تواضع المؤلِّف الإختصاصي على تقديم مادة غنيَّة لمسألة عامّة لا تزال تشغل الألباب، وقد تزداد إثارةً لإهتمامات القرّاء العرب في مطلع الألف الثالث.
وإننا إذْ نقدمه في صيغته المعرَّبة هذه، إنما نسعى إلى شراكةٍ في الوعي، حدودها مدى تحوّل المعرِّب مؤلفاً مشاركاً، ومدى حضور الكتاب المعرَّب في ذهن القارئ، الباحث عن حقيقة لم تتوقّف عن التحقّق والحدوث والتكوُّن.
والحال، فإن هذا الكتاب الذي تصدره "دار عويدات الدولية في سلسلة عام 2000" هو مفتاح سلسلةٍ تطمح إلى تناول الحضارات الكبرى في العالم، وفي مقدّمتها الحضارة العربية، فماذا عن هذا الكتاب - المفتاح؟.
واضعه، أندريه بريتون متعدّد الإختصاصات والإهتمامات، فهو جغرافيّ - مؤرِّخ؛ وهذا الأمر يضعنا مجدَّداً على عتبة الوعي العلمي لتلازم الجغرافيا والتاريخ؛ وهو فوق ذلك أستاذ أبحاث في مركز البحوث والدراسات الإناسيَّة (الأنثروبولوجيَّة)، وإذا تواضعنا على أن الأنثروبولوجيا المعاصرة هي التسمية المستحدثة للفلسفة الإنسانية، التي كانت تُدعى أم العلوم، فإن هويّة المؤلّف تزداد وضوحاً في خيالنا: فيلسوف - جغرافيّ - مؤرّخ؛ فهل هذا كافٍ، على صعيد الإختصاص، لإنتاج مبحث علمي في جغرافيا حضارية تجمع بين التورخة والفلسفة؟ الجوابُ يقدُّمه بريتون في كتابه هذا الذي صدر للمرَّة الأولى سنة 1987 في باريس.
وفيه يتساءل رولان بريتون عن معنى الحضارات، ويرشدنا إلى المغزى التاريخي والفلسفي العام، لإنتقال الوعي العلمي من وحدة الحضارة إلى تنوّع الحضارات، وهو إذْ يتسلَّق شجرة الإشتقاق اللاتيني واليوناني - وهذا حقُّه في مرجعيّته - لكلمة حضارة، فإنه لا يعفينا نحن العرب من تسلّق شجرتنا الإشتقاقية الخاصّة بنا، كمرجعيَّة ثقافيَّة: حيث أن الحضارة ترشدنا إلى حالة حضورنا في العالم المسكون، حالة إعمارنا جزءاً من عالمٍ صار عالمنا بفضل حضورنا الإنساني، الإعماري، فيه؛ وهو حضور في حاضرة، في مدينة، في معمورة جديدة صنعناها بأنفسنا ولأنفسنا، فكانت صورة حضورنا الجغرافيّ في تاريخ عالم لم يزلْ يتكوّن ويصنع في ذاته؛ وفي مقابل الحضور الحَضَري، العُمراني - الإجتماعي، تبرز الثقافة مشتقةً من جذر ثَقَفَ، زرع وصقل، أدّب وهذَّب، حتى بلوغ مكارم الأخلاق، أي بكلام آخر، إن العمران المدني للعرب يقابله ويكمّله عُمرانُهم الأخلاقي، المعنوي، الروحيّ.
وإذا كان من حقّه، كمؤلِّف، الإستشهاد بتصوّرات شيينجلر وتوينبي، فليس من العلميَّة بشيء الإقتصار عليهما، وتناسي جَدّ المؤرّخين الحضاريين في العالم الحديث: العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون (القرن الرابع عشر م) سواءٌ في مقدّمته لكتاب "تاريخ العبر" أو في سيرته شرقاً وغرباً.
فنظريّة ابن خلدون في تعاقب الأجيال وتعاقب المدنيّات والحضارات، وإنقلاب العُمران بإنقلاب الرياسات العلمية والسياسيَّة، لا تبدو بلا فائدة لباحث موضوعيّ، يطمح إلى تقديم مقروئيَّة متكاملة، فإذا جاز مثلاً لبريتون أنْ يقرأ جغرافيا حضارات العالم الغربي من منظور توينبي وشيينجلر مثلاً، أليس من الأصلح، مثلاً، أن يُقرأ تاريخ الحضارات الأخرى، وفي مقدّمتها الحضارة العربية الإسلامية، من منظار ابن خلدون والمقريزي وابن الأزرق، إلخ...
هذه أسئلة تأسيسية تطرح نفسها على القارئ العربي وعلى المؤلّف العربي قبل أن تطرح نفسها على سواه، وفي هذا المجال، يمكن الإسترشاد بأعمال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط، إلخ؛ ولكن ليس بدون نقد؛ زدْ على ذلك، انَّ صورة المعمورة، أو المسكونة، في وعي الجغرافيّين الحضاريّين العرب والمسلمين، هي جزء لا يتجزأ من موشور الثقافة الإسلامية - العربية، ونظرتها الحضارية إلى حضور المسلمين في العالم. فمثلاً، نظريَّة الفضاء الرّوحي للأمة او للناسيَّة المحمديّة (عبد الله العلايلي، أين الخطأ؟) تقدّم قراءتين متكاملتين لأمة الدعوة (العرب) ولأمة الإستجابة (المسلمون غير العرب)؛ وهذه القراءة التأصيلية أو التأسيسية، تبدو ممتنعة من منظار القراءة الغربية أو الإستغرابية وحدها - التي لا تخلو من أنوية مركزية عربية ولا من نظرة إستعراقيَّة (ethnocentriste) - طالما أن الكلام يدور حول أعراق وأقوام، كان حضورهم المعموريّ أساساً لجغرافيا حضاراتهم.
يبقى أن هذا الكتاب، على ما فيه، ما له وما عليه، يوفّر لنا مرجعيَّةً أوليَّة لإدراك مواقع مدارنا الحضاري العربي الإسلامي، بالمقارنة مع المدارات الحضارية الأخرى، التليدة والطريفة: من المدار الحضاري الهندي إلى جاره الصيني، والآسيوي الجنوبي الشرقي فالأوقياني، وصولاً إلى المدارين الحضاريين الغربيين الأوروبي الغربي ونقيضه الشرقي، والأميركي الشمالي والجنوبي، مروراً بالمدار الحضاري الزنجي - الأفريقي. إقرأ المزيد