الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ
(0)    
المرتبة: 27,229
تاريخ النشر: 01/01/2014
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
نبذة نيل وفرات:لم ينفك الإنتاج الديني يشكل حيّزاً هاماً من إهتمامات البحث في تاريخ الإسلام والمسلمين وفي حضارتهم؛ ويشمل هذا الإنتاج كل ما صُنّف في باب العلوم الدينية من فقه ونوازل وأصول فقه وكلام وتفسير.
ومن بين هذه العلوم علم أُفرد بإهتمام خاص هو الفقه، فهو أسبقها نشأة وأكثرها إستقطاباً للتصنيف وأعمقها ...أثراً في سائر العلوم وفي حياة المسلمين؛ لذلك جاز للبعض أن يسمي الحضارة الإسلامية "حضارة فقه"، وجاز لأخرين نفي وجود علم تشريع عند المسلمين "سوى الفقه".
وبناءً على ذلك، يتبين أن الفقه قد اكتسب أهمية بالغة من موقعه في الثقافة الإسلامية من جهة، ومن وظيفته بوصفه عنصراً أساسياً من عناصر المنظومة التشريعية الإسلامية التي نظمت حياة المسلمين ومعاملاتهم من جهة أخرى، فهو العلم الذي قُصِد به معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية وهو الذي وجّه عمل القضاة والمفتين في المنوال التشريعي الإسلامي القديم.
هذا وقد اعتمد الأصوليون لاحقاً وبناءً على أدلّة من القرآن الكريم والسنّة ومن سير الصحابة والتابعين، تعيين مفهوم الإفتاء وفي ضبط شروطه، ومن هذه الضوابط: 1-إعتبار العالم مكلفاً شرعاً ببيان أحكام الله تعالى للعامّة من المسلمين الذين يجهلونها، 2-العامة غير مكلفة بمعرفة الأحكام الشرعية، ولكنها مكلفة بأن تعمل بمقتضاها لذلك يجب عليها متى لم تعرف الحكم الشرعي في حادثة من الحوادث أو في أمر ما يعرض لها من القضايا أن تستفتي العالم، 3-الإفتاء هو الإخبار بالحكم الشرعي في ما يعرضه العاميّ عادة، وهو المستفتي، من أسئلة العالِم، وهو المفتي، 4-مواضيع الأسئلة هي مستجدات الحياة وحوادثها مما لم يرد بشأنه حكم في المصادر الأصلية ومما لا يكون حكمه الشرعي واضحاً بذاته بالنسبة إلى عامة الناس فالفتوى.
وإلى ذلك، هي سؤال وجواب، سؤال يطرحه المستفتي، ويبسط فيه القضية التي عرضت له وجواب يخبر فيه المفتي المستفتي بذلك الحكم.
من هنا، تأتي أهمية هذا البحث الذي تناولت فيه الباحثة الفتيا كمؤسسة من مؤسسات التشريع الإسلامي، وقضية مركزية من قضاياها، والقضية هي وضع الفتيا المشرود بين عاملين تحكّما في نظامها ومضمونها وآليات إشتغالها وحدّدا خصائصها وهما: المذهب الفقهي من جهة والتاريخ وضغوطه وإكراهاته من جهة أخرى، متخذة من فتاوى ابن رشد الجدّ، الفقيه الأندلسي، أنموذجاً.
وتبين الباحثة هذا العنوان إنما يقول على إقرار ضمني بما ما بين الفتوى والفقه من علاقات وثيقة، فهي مضمونه الإجرائي - العملي وقد غدا "قواعد قانونية" يحتكم إليها المفتي من تحديد أحكام ما يطرأ على حياة الناس من نوازل، كذلك يقوم على إقرار بأن هذه الدراسة المنجزة تتجاوز المستوى النظري الذي يقصر الإهتمام على مفهوم الفتيا وعلى دراسة تاريخ مؤسسة الإفتاء في العالم الإسلامي، إلى مستوى تجريبي تروم الباحثة من خلاله دراسة هذه الممارسة التشريعية في إطار تجربة تاريخية محدّدة في المكان والزمان، هما مكان ابن رشد وزمانه، الأندلس في أواخر العصر الطائفي... عصر ملوك الطوائف، ومستهلّ العصر المرابطيّ.
وقد سلّطت الباحثة الأضواء في بحثها هذا على أبواب ثلاثة: أولاً على الإفتاء في علاقته بالمذهب الفقهي عموماً والمالكي خصوصاً، وهو المشغل الذي يوضح مسار المأسسة في تاريخ الفكر الإسلامي، وثانياً على منهج ابن رشد الجدّ في إفتائه وكيفية تعامله مع مصادره سواء كانت قضية أو مستدلّة بالإجماع في عدد من الحالات، وبالقياس في حالات أخرى؛ وثالثاً على طبيعة العلاقة الإشكالية بين المجتمع والدين والثقافة بالأندلس في آخر القرن الخامس الهجري وبداية السادس أي في آخر عهد ملوك الطوائف ومستهل الحضور المرابطي فيها.
وقد خرجت الباحثة بنتيجتين لا بد أن تكونا موضع تدبّر لدى القارئ وهما: الأولى، أن المجتمعات الإسلامية لم تعرف تحولات تاريخية عميقة كالتي اجتاحتها من أثر الحداثة؛ لذلك ظلت أحكامها السائدة أصولاً تقاس عليها أحكام الحوادث الطارئة أو عبر تأويل النصوص - المصادر - لإنطاقها بما يراد أن تنطق به من أحكام "والنتيجة الثانية أن "التشريع الإسلامي وإن كان يستند إلى مصادر إلهية فهو في مضمونه الإجرائي وفي آليات تشكله محكوم بعواقل التاريخ الإجتماعية والسياسية والثقافية أكثر مما هو محكوم بطبيعة المصدر الذي يستند إليه". إقرأ المزيد