السيدة أمريكا ؛ مقاربات لقراءاة وجه أمريكا الثقافي
(0)    
المرتبة: 125,223
تاريخ النشر: 01/01/2006
الناشر: مركز الإنماء الحضاري
توفر الكتاب: نافـد (بإمكانك إضافته إلى عربة التسوق وسنبذل جهدنا لتأمينه)
نبذة المؤلف:يحكي القزويني في أثاره (ص 369) حكاية عن (دير الجودي)، وهو دير مبني على قمة الجبل الجودي وهو الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، ويقال أن هذا الدير مبني منذ زمن نوح ولم تتجدد عمارته، ويذكر القزويني كلاماً عن سطح هذا الدير فيقول (زعموا أن سطحه يشبر فيكون ...عشرين شبراً مثلاً، ثم يشبر فيكون اثنين وعشرين، ثم يشبر فيكون ثمانية عشر، فكلما شبر اختلف عدده).
تلك كانت صفة سطح الدير، وتلك هي حال مقارباتي هذه عن أمريكا، وما محاولة شبر سطح الدير إلا ضرب من القراءة، وكل قراءة لنص او ظاهرة بشرية أو كونية لا بد لها من مواجهة مأزق يماثل مأزق تشبير سطح الدير، فالمقروء يزيد وينقص ويتبدل مع تكرار القراءة، ولا شك أن الإنتقال من التصور العيني إلى التصور الذهني ثم التمثل اللغوي ثم تنقل نوعي تتغير فيه الصور وتزداد المسافة ما بين الشيء كوجود عيني وما بين الشيء كعبارة لغوية - وهي مسألة يعرفها السميولوجيون القدامى والمحدثون بدءاً من أبي حامد الغزالي إلى إمبرتو إيكو (الخطيئة والتكفير ص 45).
وأميركا بصورتها الواقعية العينية شيء مختلف عنها في صورتها الذهنية في ذاكرة المتصور لها، وهاتان الصورتان تختلفان عمّا يسكن في النص اللغوي كتعبير وتمثل لما هو قار في الذهن.
وها أنذا بعد كتابة ست وثلاثين مقالة عن أمريكا، أشعر بحاجة إلى كتابة ست وثلاثين أخرى أقول فيها غير ما قلت، وأزيد فيها وأنقص منها مثل حل سطح الدير وشابريه؛ فاللغة البشرية لم تبلغ الحد الذي به يتطابق التعبير مع الصورة الذهنية، هذا عيب في اللغة لازم نشأتها وصاحب وجودها حتى صار ميزة في الخطاب اللغوي، ظهر منها الخطاب الأدبي والتعبير المجازي، وسمح بولادة الخيال وتنامي الشعرية والسردية في لغة البشر.
تأتي أمريكا على أنها فكرة وليست مجرد مكان، ولقد كانت حلماً بشرياً قديماً، وكلنا قد قرأ أحلام الرحالة والجغرافيين عن جزر ضائعة، وعن جزر تنبت فيها النساء، ويتقاطر سيلها ذهباً وياقوتاً.
هي مصطلح لغوي مجازي، وهي خيال بهيج، كلما شبروه اختلف وكلما اقتربوا منه ابتعد، ويظل الحلم الاميركي (American dream) مطلباً بشرياً طلبه المهاجرون الأوائل، وما زال يطلبه الناخبون المعاصرو في حملات رؤساتهم وفي وعودهم البيضاء.
جاءت أمريكا في آخر التاريخ وفي آخر معاجم اللغات والحضارات، فصارت أغض الأمم وأشب الإمبراطوريات، مثلما جاء مكانها آخر الأماكن، وهو موقع جغرافي في إعطاها فرصة عالمية لأن تكون آخر من ينام من البشر، وبعد أن تهجع كل قارات العالم يأتي دوراً أمريكا لتنام قريرة العين حين اطمأنت على العالم القديم وتأكدت أنه هاجع في نوعة عميقة كما تطمئن الأم على أطفالها أو يطمئن الفتى البار على جدته العجوز.
وهذا لا يعني أن أمريكا قد صارت الابن البار والبنت الصالحة التي لا تقصر في حقوق والديها، بل إنها كيان بشري مثل سواه من البشر، ولكل أمة من الأمم جنونها تماماً مثل الأفراد ولها هوسها ووساوسها ومراهقتها، غير أن جنون أمريكا ومراهقتها يأخذان صورة مختلفة لأنها تملك لغة مختلفة ووجهاً مختلفاً، له من القوة والسلطان ما يجعله وجهاً عالمياً ولغة عالمية؛ ولذا فإنه كلما جنّت أمريكا جنّ معها العالم وكأنها بذلك خاتمة لرواية من روايات أجاثا كريستي حيث تعدل النهاية كل أحداث الرواية وتجرها وراءها وإن تقدمت عليها.
هذه هي أميركا خاتمة الرواية العالمية وآخر المواقع الجغرافية، وحينما تكون هي غرباً يكون العالم كله شرقاً لها، وكله يصب فيها وينحدر نحوها مثل إنحدار الشمس الأبدي نحو الغرب؛ لذا تكون قراءتنا لأمريكا هي قراءة لنا من حيث إننا نرى أنفسنا في هذا الآخر ونفيس ذاتنا من خلال التعرف على آخر ليس لنا ولكنه فينا ومن حولنا. إقرأ المزيد